سيد درويش.. والمسرح الغنائي المحرض علي الثورة
كتب - محمد بهجت:
كتب - محمد بهجت:
37


في مثل هذا الوقت من شهر سبتمبر من كل عام كنت أرافق والدتي الناقدة المسرحية الراحلة سناء فتح الله لنتابع الاحتفال بذكري فنان الشعب سيد درويش,

قوم يامصري مصر دايما بتناديك
خد بناصري نصري دين واجب عليك
شوف جدودك في قبورهم ليل نهار
من جحودك كل عضمة بتستجار
صون آثارك ياللي ضيعت الآثار
دول فاتوا لك مجد وأنت فت عار
إنها كلمات وموسيقي تدفع بالدم إلي العروق وتحرض بوضوح علي الثورة ورفض الواقع المنهزم, قدم سيد درويش العديد من المسرحيات الغنائية والأوبريتات حملت وجهات نظر منتجيها مثل فيروز شاه والهواري لفرقة جورج أبيض ولو وإش وقولوا له وفشر والعشرة الطيبة لفرقة نجيب الريحاني ولسه وراحت عليك وأم أربعة وأربعين والبربري في الجيش ومرحب والانتخابات لفرقة علي الكسار, وهناك اعمال أخري لفرق عكاشة ومنيرة المهدية وعمر وصفي بل إن سيد درويش كان يشارك احيانا في حرب التراشق بالأسماء بين الريحاني والكسار فمثلا هو ملحن مسرحية راحت عليك للريحاني, وهو أيضا صاحب الحان مسرحية فشر التي يرد بها الكسار علي دعابة الريحاني, ولكن عندما قرر سيد درويش أن يكون فرقة مسرحية ويقدم اعمالا من انتاجه اختار الموضوعات السياسية والوطنية في مسرحيتي الباروكة وشهرزاد, أو شهوزاد ـ كناية عن الشهوة ـ كما كتبها مؤلفها الشاعر الكبير بيرم التونسي, فالمسرحية تتحدث عن الملكة شهرزاد التي تقع في غرام جنديها البسيط زعبلة, فترقيه إلي أعلي الدرجات وتعتقد انها بجمالها وثروتها وسلطانها تستطيع أن تشتري أي شئ تتمناه, ولكن زعبلة الجندي الفقير يلقنها درسا في كرامة المصريين حيث يغني لها:
طول ما نهر النيل بيجري
أنا لا أنذل عمري
وان حكمي أي مصري
احكمي عالمستحيل
ويغني لها في موقع آخر من المسرحية
أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الأهرامين
جدودي انشأوا العلم العجيب
ومجري النيل في الوادي الخصيب
لهم في الدنيا آلاف السنين
ويفني الكون وهمه موجودين
كان تلحين هذه الكلمات مغامرة في واقع لا يمتدح المواطن المصري البسيط ولا يتغني بأمجاده, وأيضا كانت مغامرة في التعامل مع الشاعر الثائر بيرم التونسي الذي عاني من النفي خارج البلاد لتهجمه وتهكمه علي الملك فؤاد شخصيا.. كان سيد درويش يهاجم الاستعمار الانجليزي ورجال الحكم والأمراء وقدمهم في احدي المسرحيات يرتدون الطراطير ويقولون: علشان مانعلا ونعلا ونعلا, لازم نطاطي نطاطي نطاطي, ولم يكن يمتدح إلا الزعيم سعد زغلول بوصفه قائد الثورة المصرية في تلك المرحلة, وعندما منع من الغناء له وصدر بيان أمني بعدم ذكر اسم الزعيم سعد زغلول تحايل سيد درويش علي البيان الأمني وغني
يابلح زغلول ياحليوه يابلح.. يابلح زغلول
عليك بنادي.. في كل وادي
قصدي ومرادي.. زغلول يابلح
يازرع بلدي.. الله ياوعدي
مجدي وسعدي.. زغلول يابلح
وهكذا نطق اسم سعد زغلول, ثم عاد للتغني به مرة أخري عند عودته من المنفي حيث لحن اغنية:
مصرنا وطننا سعدها أملنا
كلنا جميعا للوطن ضحيه
نجمع هلالنا ويا صليبنا
علشانك أنتي ياحرية
المشهد الذي لم يغادر ذاكرتي وأنا شاب صغير اتبع خطوات والدتي وأستاذتي للاحتفال بذكري فنان الشعب في كوم الدكة, عشرات العساكر من جنود الشرطة أو ربما الأمن المركزي وهم يحيطون بالصيوان المفتوح.. ويحملون العصي والدروع في تحفز شديد.. ورفضهم القاطع لتناول أكواب الشاي التي تقدم اليهم بود من سكان المنطقة, بالتأكيد كانت هناك أوامر صادرة لهم بذلك؟ ما الذي كانت تخشاه أجهزة الأمن من الاحتفال بسيد درويش؟
هل كانت الداخلية تخشي علي مشاعر الاستعمار الانجليزي حتي بعد الجلاء بخمسين سنة؟! أم إنهم يرون اصحاب الطراطير هم حكام كل عصر وكبراء كل مرحلة؟! أم أن الأوامر بمنع ذكر اسم سعد زغلول مازالت سارية حتي الآن؟! والسؤال الأغرب والأهم لماذا لا يعاد تقديم أوبريتات ومسرحيات خالد الذكر سيد درويش إلي الآن, ومتي تفكر وزارة ثقافة الثورة في إحياء الأعمال الفنية التي تصنع الوعي وتحض علي الثورة السلمية والجهاد والتضحية في سبيل الوطن وابرزها مسرحيات العشرة الطيبة وشهرزاد والباروكة؟